| 0 التعليقات ]

بقلم الدكتور عاشور فني







ذلك الفتى الذي يجلس وحيدا حتى ساعة متأخرة من الليل في ردهة الفندق الجبلي الصغير ليس مصابا بالأرق ولا يؤلمه رشح خريفي مبكر. إنه مدون جزائري. فهم روح عصره عبر التقنيات الجديدة وانخرط مبكرا في التجربة. أنهى دراسته الجامعية في الأدب العربي وأصابه ما أصاب جيله من الإحباط والشعور باليتم. جرب مهنا مختلفة واختار ما يناسب عوده صلب وقامته الفارهة. عيونه تشي بحزن رقيق وملامحه تؤله لدور أساسي في فلم رومانسي. رأى وهو في مدينته النائية احد زملائه في الجامعة يقدم برنامجا تلفزيونيا فذهل. كنا معا. كيف اخترقت الشاشة الفولاذية وجلست في الطرف الآخر. ثم أعاد التفكير. مادام هذا قد وصل إلى هناك، فلا شيء يمنع من أن أصل أنا أيضا. سأصل أنا أيضا.
كان ذلك قراره الذي استقر عليه أخيرا. لم تكن مخاوف الأسرة عليه إلا لتزيده تصميما وعزيمة على تحقيق حلمة. جرب مهنا كثيرة من أجل جمع المال الذي يسمح له بالوصول إلى العاصمة. اشتغل في النهار حتى الإرهاق. هاهو يجلس في ردهة الفندق يدون أفكاره ويرسل مقالاته. يعود أحيانا إلى مسكنه في ساعة مبكرة من الصباح.

ينشر عبر المواقع العربية والجزائرية، وفي بعض الصحف. بعد جهد عظيم جمع المال الذي يلزمه للانتقال إلى العاصمة. حمل نسخا من مقالاته الإلكترونية، وقدمها لبعض زملائه بالعاصمة ليسعوا له لدى مديري المؤسسات الإعلامية العمومية والصحف الخاصة. أقام في فنادق العاصمة وكاد ينفق كل المال الذي جمعه.انتابه إحساس حاد بالإهمال وباللاجدوى. ماذا يفيد كل هذا الجهد؟ ماذا تفيد الموهبة والكفاءة أو النباهة في مدينة أغلقت أبوابها الفولاذية في وجه أبنائها؟ الصفحات الإلكترونية أقرب إلى نفسه من هذه الجدران الإسمنتية. في لحظة يأس قرر أن يتقدم بنفسه إلى مسؤولي الصحف وفي نيته أن يراهم عن قرب ويدقق في ملامحهم. من هؤلاء؟ من أين جاؤوا؟ فيم يفكرون؟ وكيف يفكرون؟ هل يدرون مدى الجرم الذي يرتكبونه بإهمال الكفاءات الفتية وامتهان كرامتها؟ كانت تلك بعض الخواطر التي ساورته وهو يتجه إلى مقر دار الصحافة. في الأثناء حدث ما يثنيه عن كل ذلك فاتجه إلى محطة المسافرين ليعود إلى مدينته ونفسه تزداد ضيقا بالمدينة الكبيرة. لمح لافتة كبيرة لأحدى الجرائد تتلألأ أمامه. دخل دون أن يفكر. ما أن دلف إلى المقر حتى وجد نفسه أمام سيدة ذات وجه بشوش تتصرف بشكل طبيعي تماما، حيته بأريحية وسألته عما يريد. قدم نفسه بشكل طبيعي تماما. دعته على مكتب مجاور. مكتب بسيط. تلك ملاحظته الأولى. قدمت نفسها. حدة حزام مديرة جريدة الفجر. سلمها نصوصه. ألقت نظرة سريعة وأثنت على موهبته. حددت مبلغا كأجرة للشهر وقامت. دعته إلى قاعة التحرير. ديزاين بسيط يليق بمدونة أعمال يومية. أومأت إلى مكتب عليه حاسوب وبجواره كرسي. هذا مكتبك، تفضل بالجلوس. انصرفت لشؤون التحرير. مرة وجد نفسه في موقع الذهول. قلبه يخفق بقوة ورؤاه تزداد اتساعا.نظر حوله. أحس ان له ستة عيون متراكبة يحدق في الأشياء ولا يرى شيئا.ستة عيون في عتمة مطلقة. أغمض عيونه الستة دفعة واحدة. حاول أن يتذكر كيف دخل إلى هذا المكان. تذكر تذكرة القطار في جيبه. لابد أن يعود إلى مدينته لجلب المال الذي يسمح له بالعيش في المدينة الكبيرة حتى موعد استلام الأجرة في نهاية الشهر. كتب أول مقالاته في صحيفة ورقية وهو على كرسي بلاستيكي وبجواره زميلة محررة في القسم الدولي. لم يكن يفكر في النظر في وجوه الصحافيين حتى موعد الخروج. فجأة نزلت برقيات عاجلة. واختلط الحابل بالنابل. طلب رأيه في الأمر فاحتار في أمره: أنا أستشار في الأمر؟؟ أبدى رأيه بسرعة فأخذ به وانتهى المر. إنه محرر من يومه الأول. على قدم المساواة مع زملائه الذين مروا بمعهد الإعلام والاتصال، ومروا بتجربة الانتقال من صحيفة إلى أخرى واستقروا أخيراعند هذه السيدة الرؤوم. أكمل يومه الأول محررا ثم استأذن رئيسته في السفر. لم تمانع بتاتا بل لمح في عينها شيئا يشبه الانكسار. ستسافر؟ عد إلينا سالما. اترك رقمك عند السكرتيرة فد نحتاج إليك وأنت بعيد. ودعاه وخرجا على استحياء. ودعه زملاؤه الذي لم يتعرف عليهم بعد، وهم يتمنون له طريق السلامة. تلك هي الأسرة المهنية إذن. خرج من مقر الجريدة بشكل طبيعي مثلما دخله أول مرة. خطوتان بسيطتان أدخلته إلى عالم ظل يحلم به ويشتغل له مدة طويلة. كان أول صحفي جزائري دخل إلى صحافة الورق عبر الصحافة الإلكترونية. جرب العمل في أقسام كثيرة من الصحيفة. تعرف على زملائه في العمل وعلى مسؤوليه. التقى بزملاء من صحف اخرى. التقى صدفة بزميله في الجامعة الذي لوح له بالحلم من وراء الشاشة الناصعة.لقد صار الآن نجما. أدى له واجب الشكر والعرفان. اكتشف انه لم يكن يستمع إليه بقدر كاف من الانتباه. لم يعلق على الأمر. ربما تكمن وظيفته في ما يصنعه من أحلام وذلك يكفيه فخرا. التقى بالخير شوار. كان اكتشافه الأساسي في العاصمة. أحس أنه قطع كل هذا الأشواط ليلتقي بهذا الإنسان. بحذر شديد وانتباه فائق تعرف على المدينة خطوة خطوة، ووجها وجها. اكتشف الطيبين من أهله في مهنة الصحافة وذاق ما يذوقون. اكشف لعبة المال والنفوذ وما تفرضه من شروط ومن تصنعه من أوهام. واصل تحرير مدونته بعنوان كبير: أنا أدون إذن أنا موجود. ذلك كوجيته الديكارتي الذي نحته من تجربته الشخصية. فتح فضاءه الإلكتروني لاحتمالات الفكر والخيال ول. أقام في حي المدنية الشعبي ليبقى على علاقة بروائح بلدته وطيبة أهلها. منها يستمد القوة والمدد. يكتب عن تجربته وأحلامه وعن مسارات النساء والرجال الذين عرفهم. نشر أول كتبه بعنوان ستة عيون في العتمة.



حين قدمه إلي الصديق الروائي الخير شوار ظننته أحد طلبتي السابقين. حييته بحرارة. ملامح دقيقة ونظرة شاردة لا تستقر على مكان محدد. خيل إنني اعرفه من زمان. حدثني عن مدونته. ألقيت عليها نظرة سريعة بمجرد عودتي إلى البيت، فأدركت من بساطتها وعدد زورها أن وراءها نظرة ثاقبة وإرادة صلبة وعملا ومثابرة. حين نشر كتابه الأول"ست عيون في العتمة" أهداني نسخة في لقاء سريع ووعدته وعدا صادقا: لن أقرأ كتابك هذه الصائفة. سأقرؤه حين تتوفر الرغبة في القراءة والوقت الكافي. نظر إلي باندهاش. لم يعده احد هذا الوعد من قبل. تناولنا شايا بمقهى شعبي بحي سالومبي الشعبي، وافترقنا على حكايات كثيرة لم تكتمل.



أقرأ الآن الكتاب بستة عيون لا أدري من أين هبطت علي، وأكتب عن تجربة مؤلفه علاوة حاجي الذي أصبح محررا مرموقا في يومية وقت الجزائر. حصلت مدونته خلال هذه السنة على موقع الصدارة في المغرب العربي حسب تصنيف غوغل. يستعد لنشر كتبا جديد يضم مقالاته في الصحف وفي المدونة. وفي ذهنه مشاريع كثيرة. أصبح الآن لمشواره معنى المسيرة. ما زال يواصل التحديق في العتمة بعيون ستة ورؤاه تزداد اتساعا. ولكنه ما يزال وفيا لجدته، يحدثها على الملأ. نقرأ آخر فقرة من أول كتبه: "إن البرد الذي حدثتك عنه يا جدتي الحبيبة، لم يأت من الخارج بفعل الطقس، بل أراه يأتي من داخلي. ولا أخال أن أية مدفأة أو كانون سيصده عني".





الدكتور عاشور فني


الجزائر.



 

0 التعليقات

إرسال تعليق