| 0 التعليقات ]


في كتابة الهايكو وشعرية التجربة


الدكتور عاشور فني





حين اطلعت الشاعرة "كوكو كاتو" كاتبة الهايكو اليابانية على ديواني "رجل من غبار" استرعى انتباهها طريقة توزيع مقاطع القصيدة القريبة جدا من طريقة كتابة قصائد الهايكو: ثلاث أسطر متتالية لا يتجاوز طولها 17 مقطعا (في اللغات الأجنبية)، مما يجعل "قصيدة" الهايكو تقرأ في نفس واحد. كان ذلك في مهرجان الشعر العالمي في مدينة "مدلين" الكولومبية،  في جوان 2004، وكانت "تجربة" رجل من غبار قد امتدت معي 15عاما انتهت بصدور المجموعة سنة 2003.
 لم أحدثها عن فكرتي حول "التجربة" ودورها في الكتابة الشعرية ولا عن اقتصاد اللغة كما أتصوره، ولا عن درجة الحد الأدنى من اللغة في القصيدة، أو عن قوة الهشاشة ولغة انكسار الوجود وآنية الحضور، ولا عن تجليات الأبدي في ما هو آني عابر وعن هاجس الموت وقوة الحياة في تجربة رجل من غبار. تلك مبادئ أولية لا تضيف شيئا لكاتبة هايكو من مستوى كوكو كاتو ذات الثلاثة والسبعين(73) ربيعا، مديرة إحدى أهم مجلات الهايكو العالمية، "كو"، التي تصدر باللغتين الإنجليزية واليابانية ورئيسة جمعية كتاب الهايكو العالمية. كان حضورها في مهرجان مدلين الشعري العالمي أحد علامات نجاحه. سألتها عن ورشة الكتابة التي تديرها وحدثتني عن الذكرى الثلاثمائة والستين لميلاد مؤسس فن الهايكو الياباني الأستاذ ماتسيو باشو ( 1644-1694 Matsuo Basho).



لم تكن تعرف اللغة العربية ولم أكن أعرف اليابانية. كانت الإنجليزية لغة الخطاب. أخرجت لي عددا من مجلة الهايكو العالمية التي تديرها وتنشر فيها قصائد شعراء الهايكو من العالم بأسره بلغة الكتابة الأصلية مصحوبة بترجمة إنجليزية. لا توجد قصيدة هايكو عربية واحدة ولا اسم شاعر عربي واحد. كل هذا الضجيج حول حداثة الشعر يقف عند أعتاب الغرب ولا يتعداه إلى المصدر "الشرقي" للحداثة الغربية نفسها. إزرا باوند، أبو الشعر الحديث في أمريكا والغرب ليس أكثر من تلميذ لأستاذ التصويرية في الهايكو، الشاعر الياباني شيكي ماساؤوكا (1867-1902 Shiki Masaoka) تلميذ الأستاذ باشو وناقده الأكبر. تذكرت كتاب الباحث الأمريكي ذي الأصل الياباني كينيث ياسودا، حول الهايكو الذي ترجمه محمد الأسعد ونشر في سلسلة المعرفة عام 1999. فتح لي أفقا لفهم تجربتي السابقة في الكتابة، بالانفتاح على شكل جديد من الكتابة مثل مصدرا أساسيا من مصادر الحداثة الشعرية في الشعر الأنجلوساكسوني.



كان الشاعر الفرنسي "بول إيلوار" في تسجيليته الجمالية أحد المفاتيح التي أخذتني إلى الصورة. ومنه اتصل البحث عن التجربة العالمية لدى التصويريين الأمريكيين وخاصة إزرا باوند وإيمي لويل ومن جاء بعدهم. تلك كانت نافذتي الأولى على عالم الهايكو في صورته الغربية في اللغتين الفرنسية والإنجليزية.



حاولت، منذ وعيت هاجس الكتابة، امتلاك لغة تستجيب لحاجات التعبير عن مكابدة الذات لوجودها اليومي في بعده الأزلي: الانغماس في ما هو آني ملموس دون فقدان البعد الروحي والإنساني الشامل. لا يمكن للعقل أن يكون وحده سبيلا لعقل العالم واستبطان الذات. فالتجربة إذن هاجسي الأول في الكتابة. واتجهت إلى تطوير لغة تستجيب لهذا الهاجس بعيدا عما شاع من ألفاظ وتعابير استهلكتها قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر معا. ساعدني هذا على الاتجاه نحو البصري والحركي والآني. وكان ذلك هو حافزي للاطلاع على الهايكو مثل طريق الأستاذ باشو الشهير: ( الطريق الضيق نحو الشمال : The narrow way to the north )، الذي ترجم إلى أشهر لغات العالم. كان طريقه في الحياة وطريقته في الكتابة وتجربته في العالم، وقد جرب بعض الشعراء والكتاب العالميين أ ن يسلكوا نفس الطريق نحو منبع الجمال الذي خلده كتاب الهايكو وشكل طريقة لكتابة أقصر قصيدة مكتملة في العالم حتى الآن قصيدة الهايكو..



تقوم التجربة الشعرية في الهايكو على اكتشاف ما يعتمل في الذات في علاقتها بالكون واستبصار اللحظة الفاصلة التي يلتقي فيها الكوني بالذاتي والأبدي بالآني والمجرد بالملموس والوعي بالطبيعة. تلك لحظة الهايكو. لحظة بسيطة عارية خالية من التقعر والوصف والتكلف اللغوي الفضفاض، لحظة الوعي الحاد بالعلاقة بين الذات والعالم من خلال تجلياته في الطبيعة. جمالية المباشر والحاضر والآني الغني ببساطته العميقة. "فالهايكو هو ما يحدث هنا الآن" حسبما أجاب باشو أستاذه الفيلسوف الذي لم يكن يرى فائدة من إضاعة الوقت في هذه الكتابة التي كانت يوما ما شكلا من أشكال تزجية أوقات الفراغ لدى فئة النبلاء في اليابان.



كان صيف 2003 غنيا جدا بالنسبة لي شخصيا. بعد تجربة كثيفة في الكتابة وترجمة الشعر انهمكت في منعطف شخصي حاد ولكنه بسيط يمكن التعبير عنه كما يلي: انتقال محور دوران العالم لدي فجأة من أفق الصحراء إلى أفق البحر. وكان ذلك بمثابة امتحان عسير في الكتابة: كيف تخرج بالكتابة من جماليات القحط والفقد والمنع والحجب والحرمان والتوق إلى نموذج الكمال الغائب إلى عالم الماء والوفرة والألوان والحركات والانغماس الكلي الآني في العالم الحاضر الماثل بكل بساطة عبر الحواس والفكر والانتباه البسيط؟ كيف تكون جزء من العالم لا خارجه ولا غريبا فيه ولا محروما منه ولا ممنوعا من شيء أو تواقا إلى شيء؟ وبعبارة بسيطة كيف تكون من الطبيعة لا موجودا فيها فقط؟



الآن أرتمي في الزرقة

لا أدري أي النجوم

ستغطي أثري



تلك كانت تجربة "أعراس الماء"، التي غمرتني بكل أمواجها دفعة واحدة وقد اعتمدت فيها الكتابة بلغتين معا والترجمة أحيانا. وقد قدر لي أن أسافر بعدها بشهرين إلى بلد المساحات المائية الشاسعة والعواصف والثلوج الأبدية خلف المحيط الأطلسي، كندا، وخيل إلى أن تجربة الكتابة في الماء وعنه تعادل السفر فيه. وقد لاحظت بعدها أن كل صورة من "أعراس الماء" قد تشظت وانقسمت إلى صور أخرى في قصائد أخرى وفي أماكن أخرى:



أيتها اللجة

على أية قمة أراك تساقطين

ندفا بيضاء؟



وهنالك، خلف سمائين متناظرتين لا تدري أيهما تعكس الأخرى جمعتني قصائد الهايكو أيضا مع شاعر فرنسي متأنق هو دانيال بيقاDaniel Biga . كانت معظم أشعاره حول الثلج والماء والبرد وسلوكات بسيطة تقوم بها كائنات تافهة تأنف منها قصائد الحداثة العربية: كلاب وسحالي وأطفال مشردون وأشخاص عاديون. رجعت إلى الجزائر بفكرة محددة نشر تجربة "أعراس الماء" باللغتين وفي الجزائر. كانت الخيبة كبيرة جدا لا يعادلها إلا طول الأمل.



هنالك

بين غيابين

يحدث أن نلتقي



 لم  يبق عالم الهايكو  معزولا في الجزيرة الصخرية، فقد أحسن أهله الاستفادة من تكنولوجيا الإعلام الحديثة لم أجد صعوبة في الاتصال بالناشرين اليابانيين هذه المرة، وظهرت بعض قصائدي باللغة الإنجليزية لأول مرة في أوت 2004 ضمن صفحة الهايكو الشهرية ليومية "يوميوري" اليابانية الشهيرة. والصفحة يعدها الشاعر الياباني سوسومو تاكيغوشي، وهو مؤسس مجلة هايكو إلكترونية عالمية بلغات عديدة. وفي شهر أبريل من العام 2005 اقترحت لملحق " الأحرار الثقافي" نشر نماذج من تجربة الهايكو، وقد قبل الاقتراح بكل أريحية ولقيت التجربة استحسانا لدى قلة من المتذوقين والمتتبعين، أما الغالبية فلا يعرف لها رأي عادة لا كتابة ولا شفاهة، ولكن صارحني بعض الأصدقاء بأنهم لم يفهموا تماما سياق هذا التطور في تجربتي الشعرية الخاصة. ويحق لهم ذلك مادامت الساحة الأدبية على ما هي عليه. من الصعب أن يقبل رأي مخالف فما بالك بتجربة مختلفة؟ وقد تبين بعد زمن طويل أن هاجس الإبداع الأدبي آخر ما يصنع الأسماء الأدبية بل الغالب أن تكون المهادنة والامتثالية والسير مع ما هو شائع هي طريقة الكثيرين لدخول الساحة ووسيلتهم للبقاء فيها. أما الذائقة الأدبية الراسخة فقد أصبحت سدا منيعا أمام الإبداع. فليس الشعراء وحدهم مصدر هذا البؤس، بل أتباعهم الغاوون أيضا. وقد عرضت فكرتي عن أزمة الممارسة الشعرية في الجزائر في محاضرة بمدينة الجزائر فلي ربيع 2005. ولم أتوقع فيها أن تحدث أية معجزة في الأفق المنظور. بل استغل بعضهم بعض ما قلته عن أزمة الشعر ليعن حريا شعواء على الشعر والشعراء  عنوانها الأساسي نهاية زمن الشعر. لا أظن ذلك بتاتا فالعالم المتقدم يزداد احتفاء بالشعر وبالشعراء ويقيم له مناسبات رفيعة. لا أدرى كيف انتهى زمن الشعر في الثقافات ذات الأصول الرعوية  في حين يزداد إبداعية وتأصلا في الثقافة  المعاصرة. وجاءت المفاجأة من مارسيليا حيث تقدم ناشر فرنسي باقتراح نشر النسخة الفرنسية من "أعراس الماء" في شكل اقترحه بكل أناقة وخضع للمناقشة خلال فترة وجيزة ثم استمر العمل والتشاور إلى أن صدرت لي أول مجموعة شعرية تعتمد تقنية فن الهايكو باللغة الفرنسية بمرسيليا في 6 نوفمبر 2005  ولم تصدر النسخة العربية حتى سنة 2007 صمن سنة الجزائر عاصمة للثقافة العربيةضمن مجموعة "هنالك بين غيابين يحدث أن نلتقي".


تأسس فن الهايكو على قيم جمالية كونية بسيطة تجد صورا لها عند كل الشعوب وفي كل الحضارات. بسيطة بساطة مسار الأستاذ باشو نفسه وهو يسير نحيلا على "الطريق الضيق نحو الشمال"، وصولا إلى غاية وحيدة مثلت منبع جمالية مختلفة حركت حلم شعراء الهايكو: مشهد البجع القادم من سيبيريا وهو يحط على بحيرة شمال إيدو. حلم بدأه باشو بالتنازل عن البيت والمال والمجد الشخصي الكبير الذي كان يؤهله لأن يكون "ساموراي" مرموقا في زمانه. ولم تسعفه صحته لإدراك ذلك المشهد، فأقام يدرس فنه للمريدين في كوخ حمل اسمه " باشو" إلى مماته.

الدكتور عاشور فني



0 التعليقات

إرسال تعليق