| 0 التعليقات ]


الدكتور عاشور فني
يمثل الطاهر وطار بإبداعه ومواقفه استمرارا لخط متواصل في الثقافة الجزائرية لم ينقطع عير العصور. خط المواجهة والتأصيل الشعبي للفعل الثقافي. وفاة الطاهر وطار خسارة فادحة على المستوى الإنساني ولكنها تمثل نقطة اكتمال لمسار ثقافي حافل بالنسبة للأديب المبدع.


الخيّرون يُعرفون عند وفاتهم: يزدادون جمالا عشية مماتهم، ويصبحون في الجنة. والطاهر وطار رجل ما انفك يزداد صلابة وتألقا حتى اكتمل. رجل لا يضيف له الموت شيئا. ولا ينقص. يكاد الذين عايشوه لا يشعرون بغيابه بل حضوره ما زال كاملا. وسيظل لفترة طويلة. يعرف القراء من مسيرته الأدبية والنضالية ما لا يعرفون عن غيره من الشخصيات الوطنية.




تلمس ها هنا عناد الجزائري الأصيل وصلابته. كثبر من الذين لا يشاطرونه أفكاره يحترمون صلابته ويقدرون تضحياته من اجل فكرته. تلك قيمة أساسية في التاريخ الثقافي الجزائري. يعلن انتماءه لخط المثقفين الكبار في التاريخ الجزائري: من أبوليوس ودوناتيس إلى ابن خلدون والأمير عبد القادر وابن باديس. أضاف إليها بشخصيته بعدا آخر: البعد الشعبي. كان يقول: سيذكر الناس الطاهر وطار والريميتي ولا يتذكرون أسماء الزعماء الذين عاشوا في عصرهم.

 

انخرط مبكرا في النضال السياسي. ترك الزيتونة والتحق بالثوار. أسس منابر عدة للتعبير عن فكرته مواصلا مسيرته الإبداعية. خطان متداخلان في مسيرة الرجل. كتبه تؤرخ لمسيرة شعبه وتاريخه النضالي.في منتصف الثمانينيات خضرت محاضرة له نظمها طلبة العلوم السياسية. كانت سمعته ترغم الناس على الخروج من الحياد. وقف بعض الطلبة في آخر القاعة يحاولون التشويش على رجل لا يشاطرونه الرأي. وقف وخيرهم: أنا مدعو إلى رحاب جامعتكم من زملائكم. عن لم يكن يرضيكم حضوري فسأنسحب. وقفت القاعة برمتها تدعوه على مواصلة الحديث الذي بدأه. دافعوا عنه وهم يختلفون معه في الرأي. وفي منتصف الثمانينيات أيضا نشرت إحدى الصحف العمومية حوارا مع السفاح بيجار الذي عذب أبطال الثورة. كانت فضيحة في الوسط الإعلامي والسياسي. تصدى لها المثقفون بحزم. في مقر اتحد الكتاب الجزائريين التأمت جمعية عامة للكتاب برئاسة الطاهر وطار ورشيد بوجدرة. كان موقف الكتاب هو الموقف العلني الوحيد في المسألة: رفض إعطاء الكلمة للجلادين ومنعها عن المناضلين والثوار الذين ما زالوا على قيد الحياة. في وسط القاعة وقف محمد عباس ودعا زملاءه الصحافيين إلى استغلال هذه الثغرة ومحاورة المجاهدين وقادة الثورة الأحياء. بدأ بنفسه وحاور أغلب قادة الثورة ونشرها في الصحف العمومية، وأصدر عدة كتب عن رجالات الثورة. كانت وقفة الكتاب تلك ملهمة لكل المثقفين الجزائريين.



فتح بيته وفكره للأدباء مطلع الثمانينيات من القرن الماضي. يقيم ما يشبه وليمة في كل شهر يحضرها المثقفون في قبو بيته للقاء والتحاور وتبادل الأفكار. كانت البضائع مقننة في الأسواق العمومية. دجاجة واحدة وكيلوغرام واحد من أي بضاعة في كل مرة شراء. الأسعار في متناول الجميع ولكن الطلبات كثيرة. كانت تلك فلسفة ذلك العهد وذلك ما يحبه عمي الطاهر: اللحم مثلا في متناول الجميع. كان يتنقل من سوق إلى أخرى عبر أحياء العاصمة والبليدة لكي يجمع عدد الدجاجات الضروري لتحضير عشاء يليق بالمدعوين المرموقين. يحضرون فرادى وينصرفون جماعات. تلك ملاحظته الرئيسية. لم يتهم أحدا بالتآمر ولكنه اقتنع بأن شيئا ما سيحدث له. أخرج للتقاعد في سن الثامنة والأربعين. وجد نفسه وحيدا أخيرا. مر بصحراء الأنبياء. في عيد ميلاده الستين لم يتذكروه. جاءته برقية من اتحاد كتاب آسيا وإفريقيا كان ذلك عزاؤه الكبير: اسم عالمي وعلامة بارزة في الأدب العالمي. ذلك رصيده الشخصي وفخر للثقافة العربية في الجزائر.





لم يتفرغ لشؤونه الخاصة بعد التقاعد الإجباري بل أسس جمعية ثقافية مع رفيقه في النضال الثقافي المرحوم يوسف سبتي. يقول الطاهر وطار عن ذلك: "مع يوسف سبتي قمنا بتحليل عميق للوضعية الحالية من تطور الرأسمال العالمي وتأثير ذلك على الأمم، مستخلصين الدروس بالنسبة للعمال في الجزائر وفي العالم: إن الرأسمال يغير جلدته ولكن لا يغير أهدافه: استغلال العمل. لذلك وجب الانتباه ومحاربة الأشكال الجديدة من التحايل على العمل". ذلك ما يسميه المحللون استلاب العمل. وللثقافة دور مركزي في تعزيز الاستلاب أو فضحه. فكرة واضحة إذن وخطة مدروسة. الثقافة في خط المواجهة. كثيرون في العالم اختاروا هذه الاستراتيجية. لم تعد الأحزاب والنقابات قادرة وحدها على الدفاع عن مصالح العمال. لا بد من خط نضالي في الثقافة.



بهذه القناعة تأسست الجمعية الثقافية واختير لها اسم على الطريقة الجزائرية: الجاحظية. لم يكن مجرد عنوان بل كان خطا نضاليا والتزاما فكريا وبرنامج عمل. تحت هذا العنوان استأنف مسيرة الكاتب الملتزم بقضايا أمته. وقف في عز الأزمة معلنا موقفه على الملأ؛ وفيا لخطه الوطني النضالي الذي نذر له عمره، مدافعا عن حق الشباب في أخذ فرصته وعن حقه في التجريب وفي الخطأ أيضا.




 

عاش الطاهر وطار مناضلا صلبا وفيا لفكرته مستقيما في وقفته لم ينحن ظهره ولم يضعف موقفه بما يشين دوره باعتباره مثقفا طليعيا. كان وفيا لمسيرته لم يتنكر لتاريخه ولم يبدل خط نضاله رغم تبدل خططه بتبدل الظروف. من زاره في وكره بالجاحظية رأى كيف عاش لفكرته متحفزا لها مترصدا كل بادرة ، متنبها لكل صغيرة وكبيرة. جنديا في ميدان مزروع بالألغام لا يتقدم خطوة إلا بعد أن يتلفت في كل الاتجاهات ويقيس كل المسافات. ورحل ونصف الجزائريين ينادونه عمي. رحل بكامل أبهته وبهائه. هو الآن يمثل خطا واضحا في الثقافة الجزائرية المعاصرة.



الذين عرفوه عن قرب يدركون أن العمل مع عمي الطاهر اختبار دائم. كثيرون رافقوه ولم يستطيعوا مواصلة المسار. لم يكن محايدا في شيء ولا يطمئن إلى من يأنس فيه الحياد.



كتابته نحت وابتداع واغتراف من ميراث شعبه: انحاز للغة العربية ودافع عن العقل ووظف التراث الشفوي والإرث الحضاري الأصيل للمغرب العربي ذي البعد الكوني. لم تغره الشهرة ولا الأسماء الكبيرة. ظل على اتصال بمنابع الإبداع في الثقافة العربية. اقتنع في السنوات الأخيرة أن الرواية العربية فتخت أفقا جديدا بكتابات إبراهيم الكوني. في الجزائر أسماء كثيرة استرعت اهتمام عمي الطاهر. نشر لمجموعة من الشباب في مطبعة الجاحظية وشجع الكثيرين. يبدي رأيه في الأعمال التي قرأها ولا يجامل من لم يقرأ لهم. شعور عميق بمسؤوليته الأدبية.

 

لم يجرؤ أحد على رثائه. كل كلمات التأبين كانت أصغر منه وأقصر من مسيرته. بما فيها هذه السطور وإن لم تكن تأبينا ولا رثاء. هي مجرد تأكيد لخط أصيل في الثقافة الجزائرية كان وطار أحد حملته الأوفياء. كتب الكثيرون عن وطار الأديب الراحل وقليلون أولئك الذين كتبوا عن الطاهر الرجل. أصدقاؤه قليلون على كثرتهم. كتب الشاعر عمار مرياش الذي عرفه عن قرب: عمي الطاهر يمكنك أن تحترمه خصما وأن تعتمد عليه صديقا.





أما الذين تعودوا على استغلال رزء الموت للانقضاض على الميراث الرمزي للرجال فلا يمكنهم الاقتراب من ميراث عمي الطاهر. لقد حصن نفسه جيدا ضد كل الاحتمالات. ما زال قادرا على الذود عن حوضه وهو في قبره. بل إنه الآن وهو في موقعه مع الخالدين أقوى. كان من الانتباه بحيث فضح جميع الألاعيب قبل وفاته. أتخيله يتبسم من وراء قبره وهو يشاهد ما يجري أو قد يجري. سجل ذلك كله في عنوان كتابه قبل الأخير: حين مشى الناس في جنازتي. وخصهم بكتابه الأخير: قصيد في التذلل. ولكن ذلك كله لا يعنيه الآن. من دخل الجاحظية يكون قد انتبه إلى تلك الحكمة البالغة التي علقها عمي الطاهر بيمينه تحت صورة المرحوم يوسف سبتي: موتنا لا يعني سوى من يأتي بعدنا.

 

الدكتور عاشور فني

انحاز إلى فئته وفكرته شابا وثبت على اختياراته ردحا طويلا من الزمن. لم يزده التزامه إلا صلابة وتألقا. إيمانه بدور المثقف الاجتماعي لا يتزعزع. غير كثير من الأدباء الكبار في العالم مواقفهم وبدلوا اختياراتهم تحت دعوى انتهاء عصر الإيديولوجيا. تلك أيضا إيديولوجيا. مع تحولات العالم الكبيرة ازدادت رؤيته وضوحا وموقفه ثباتا. كل هذه التحولات لا تبرر الاحتيال على عرق الكادحين. كل هذا الذي يحدث لا يبرر تخاذل المثقفين.

0 التعليقات

إرسال تعليق