| 0 التعليقات ]


الشاعر عاشور فني ل"الأثر" الأدبي
· التجربة الشعرية لقاء بين ما هو آني عابر وكوني مطلق
أجرى الحوار : الخير شوار

بدأ عاشور فني الكتابة الشعرية في نهاية سبعينيات القرن الماضي وانتظر سنة 1994 ليصدر عمله الأول "زهرة الدنيا" ثم حوالي عشر سنوات أخرى لترى مجموعته الثانية "رجل من غبار" النور. وفي أثناء ذلك بدأ تجربة جديدة في الثقافة العربية وهي كتابة شعر الهايكو، وكان ينشر بين الفينة والأخرى بعض النصوص بالعربية والإنكليزية والفرنسية. في الأيام القلية الماضية صدرت له مجموعة شعرية هايكوية بالفرنسية عنوانها " " فكان ذلك مناسبة لهذا الحوار
:
صدر هذا الحوار في ملحق " الأثر" الأدبي بتاريخ 17 يناير 2006

مبروك مرة أخرى صدور مجموعتك الجديدة باللغة الفرنسية ( أعراس الماء) ، فهل هي نهاية مرحلة رجل من غبار التي قلت لي سابقا بأنها ما تزال تراودك بين الفينة والأخرى؟

الساعر عاشور فني: بداية دعني أهنئكم على هذه المغامرة الفكرية الجديدة التي تخوضونها في "لأثر"، فمثل هذه التجارب المتجددة ضرورة لبعث الساحة الثقافة نحو التجدد وتعددية الآفاق الإبداعية. ويسعدني كثيرا احتفاؤكم بكل ما هو إبداعي وجديد وشامخ، في الثقافة الجزائرية المعاصرة وفي الثقافة العالمية. هذا التفتح هو سمة كل ثقافة في مراحل قوتها وعطائها وثقتها في ذاتها. فهنيئا لنا بهذا. وشكرا على الكلمات اللطيفة. في ما يخص "أعراس الماء" الذي صدر مؤخرا باللغة الفرنسية عن منشورات فيدال-أنتالم-إكس بمرسيليا، هو خلاصة تجربة جديدة، مكثفة، أعتبرها محطة أخرى في مساري الشخصي وفي تجربتي في الكتابة، تختلف جذريا عن تجربة رجل من غبار. وتكمن عناصر الاختلاف الأساسية في العلاقة بالزمن، وبالكون وعناصر تكوينه المختلفة كما تكمن في العلاقة مع الشعر ذاته ومع اللغة. ولو أخذنا في اعتبارنا عنصرا واحدا وهو الزمن لوجدنا أن التجربة الأولى "رجل من غبار" قد ظلت معي 14 سنة وهو ما أتاح لي أن أفرغ فيها كثيرا من الجهد وأن أتعمق كل جوانبها في هدوء وبنفس طويل. أما في أعراس الماء فقد كانت التجربة حادة ومفاجئة وكثيفة وسريعة إلى درجة أنني لخصتها أو تجاوزتها في ظرف ثلاثة أسابيع تقريبا. أما عن الكون الذي تنتمي إليه "أعراس الماء" فهو بكل بساطة عالم الوفرة والحضور الآني الدائم المتبدل الثابت المتلون الذي لا لون له، مصدر الحياة والموت الدائم المباغت. عالم المتناقضات كلها: عالم الماء. وكان يكفي أن تتملكني هذه الفكرة في لحظة صفاء عابرة ليتغير موقفي من أشياء كثيرة، ومنها الكتابة الشعرية نفسها. شاهدت نفسي غارقا في بحر كبير وأنا على شاطئ عادي صغير. تمنيت ساعتها لو دامت تلك اللحظة إلى الأبد، وكان ذلك مبدأ القصيدة، والباقي مجرد خلاصة لتجربة تلك اللحظة العظيمة.

- لماذا النشر بالفرنسية أولا، هل لأن هذه اللغة أكثر استيعابا لهذه التجربة من العربية، أم أن في الأمر اعتبارات أخرى؟

الشاعر عاشور فني: شكرا لهذا السؤال. سبق أن قلت أن علاقتي باللغة كانت من بين عناصر الاختلاف. ذلك أن هذه التجربة كانت فعلا باللغتين العربية والفرنسية معا. كنت يومها كمن يركب جوادين بتعبير أبوليوس في حديثه عن كتابته باللغتين الإغريقية واللاتينية. وقد كانت المقاطع الأولى فعلا باللغة العربية ثم وجد نفسي أعيد كتابة نفس المقاطع باللغة الفرنسية وهو ما استمر معي بشكل تلقائي في كل مقطع أكتبه باللغة الفرنسية أعيد كتابته باللغة العربية مباشرة، مما جعل النص أصليا في اللغتين معا. إنها تجربة فريدة، وتفسيرها بالنسبة لي شخصيا هو أنني كنت يومها أكمل تجربة سنة كاملة في ترجمة الشعر والاطلاع على التجارب والاتصال بالآخرين من مختلف الآداب واللغات، كما كنت أتهيأ للمشاركة في ملتقى دولي للشعر وفي ورشة ترجمة وكتابة. هذا التفتح الدائم والإصغاء للآخر فرض نفسه على التجربة وساهم في صياغتها بهذا الشكل. وفي غمرة الكتابة لاحظت أنني في الحقيقة أستمرئ هذا الوضع بشكل لم يسبق له مثيل، كما أنني عملت أيضا على تعميق التجربة نظرا لوعيي الكامل بخصوصيتها على كل المستويات. فالنص إذن موجود باللغتين العربية والفرنسية وهو الآن قيد الترجمة إلى اللغة الإنجليزية. أما النشر فتلك مسألة أخرى. وضعت النص تحت تصرف ناشر جزائري وعد بإصداره في طبعة مزدوجة، كان ذلك حلمي في الحقيقة. ولكن بعد سنة اعتذر الناشر لأسباب تخصه. وأثناء ذلك ظهر الناشر الفرنسي بغتة فاقترح نشر النصر الفرنسي، بشكل مبتكر، وما زال النص باللغة العربية في الانتظار.

- لجوؤك إلى الهايكو منذ سنين، هل هو ناتج عن إحساسك بحدود الكتابة الكلاسيكية أم كان رغبة في اكتشاف أراض جديدة
؟
الشاعر عاشور فني: لم ألجأ إلى الهايكو، بل كان هذا الشكل الكتابي مبثوثا في نصوصي الأولى ولم أكن أعيه بشكل كامل. وفي بداية الثمانينيات كنت أقول لصديقي العباس عبدوش إنني أكاد أعثر على القصيدة مكتوبة من تلقاء نفسها وأنني لا أفعل أكثر من أن أزيح عنها غشاوة أراها. أرى غشاوة على النص الذي أكتفي باكتشافه. كنت أرى وما زلت أن التجربة الشعرية هي تجربة صوفية بالأساس أي لقاء كامل بين ما هو آني عابر وكوني مطلق دائم. وكنت دائما وما زلت أقف ضد التوجه اللفظي المحض في الكتابة والذي ابتذل الشعر والأدب إلى درجة فاضحة لتغطية فراغ التجربة وغياب الرؤية. لا يمكن للجعجعة اللفظية أن تحل محل التجربة الشعرية. وما زلت أقف ضد لصوص اللغة الصوفية القدامى والمحدثين، الذين يوهمون الناس بعذابات الصبوة والبوح والرحيل وهم في طينهم غارقون. وقد تحول لدي هذا الموقف إلى مبدأ واضح: لا علاقة للشعر باللفظة أصلا. ثم تطور ذلك إلى نوع من البحث في التشكيل البصري للوحة ملونة بالطبيعة ولحظات الحياة اليومية، وقد تعلمت كثيرا من كتابة بول إيلوار في اللغة الفرنسية، ولم أنتبه إلى علاقة ذلك بالهايكو إلا في وقت متأخر حين صادفت بعض الكتابات النقدية عن السينما، ثم أخذت الأمر مأخذ الجد لأنه كان يحل مشكلة أساسية في كتابة الشعر: مشكلة الصورة. وهنا انتقلت إلى دراسة تراث التصويريين وعلى رأسهم إزرا باوند، الذي يقدم في النقد العربي على أنه أبو الحداثة في الشعر، دون أن توضح علاقته بالمصدر الشرقي لهذه الحداثة ألا وهو شعر الهايكو الياباني، وقد كان بعض أعضاء جماعة "سوهو" الشهيرة يوضح نقاط خلافه الفلسفية والنقدية مع زملائه بواسطة كتابة مقاطع هايكو، كما رد أحدهم بقوة على إزرا باوند نفسه متهما إياه بعدم فهم فلسفة كتابة الشعر الشرقية. لا أريد أن أثقل على القراء بالتفاصيل، ولكن أقول أن الكتابة الحديثة تتضمن شيئا من هذا الشكل الكتابي إلى هذا الحد أو ذاك. ولكن الجديد هو اتخاذ كثافة اللحظة مرتكزا للتجربة برمتها. ذلك عنصر قابل للتطوير ويمكنه أن يمضي بإنجازات القصيدة العربية قدما نحو المزيد من التطور.


-في حدود معلوماتي فأنت تكتب الهايكو بالعربية والفرنسية والإنكليزية، هل التجربة واحدة أم أن هناك تجربة داخل كل لغة؟

الشعار عاشور فني: فعلا نشرت لي بعض نصوص الهايكو في الملحق الأدبي ليومية يوميوري شيمبون اليابانية في نسختها الإنجليزية. والواضح أن اللغة الإنجليزية التي وعت أزمتها مبكرا قد انخرطت في أشكال كتابية جديدة تنزع نحو اليومي والنثري وتحاول إعادة اكتشاف الشعري في ما هو عادي ويومي، وطورت لذلك أساليب تعبير وتطورت معها ذائقة القراء وأساليب العمل، فاللغة الإنجليزية الآن مهيأة بما يكفي لخوض الأشكال الأكثر غرابة في الكتابة واللغة الفرنسية كذلك. أما اللغة الشعرية العربية فقد أخذت اتجاهين أساسيين في العقود الأخيرة: اتجاه يبحث عن الحداثة لدى المتصوفة وفي أدراج التراث وهو في اعتقادي بحث مشروع ولكن طمس ملامح الشعرية في اللغة العربية الحديثة، وأما الاتجاه الثاني فقد نحا منحى متعاليا جدا، لم يعد معه ممكنا أن يوجد الشعر إلا في القضايا الكبرى ذات الخطورة العظمى. وكلا الاتجاهين يجد دعما لدى المؤسسات الرسمية والشعبية ذات العلاقة بالشعر، والتي تكيف ذوق الجمهور. وقد ابتذل الاتجاهان معا من قبل جهات غير ثقافية وجدت فيهما طريقة للترويج لبضاعتها غير الأدبية، وخلقت لهما جمهورا رهيبا لا يقبل الحوار إلا من زاوية ضيقة جدا لا علاقة لها بالثقافة. في ما يتعلق بتجربتي أعترف أن تجربة الكتابة بلغات أخرى مفيدة جدة، ودلتني على نقاط ضعفي في الكتابة بلغتي العربية وكان ذلك مصدر إثراء لتجربتي. كما سمح لي ذلك بمعرفة صدى كتابتي لدى الآخرين في ثقافات أخرى، وأعترف هنا أيضا أن جودة النص تفرض نفسها في أية لغة كانت، وأن للثقافة العربية مكانة طيبة عند كثير من الشعوب وأن المطلوب هو الانفتاح على تلك الشعوب والثقافات لمعرفتها والتعريف بثقافتنا لديها.

- كيف ترى قصيدة الهايكو في اللغة العربية، وهل ترى أن مثل هذه التجارب بإمكانه إخراج القصيدة العربية من مأزقها؟
للهايكو الآن حضور عالمي وفي لغات عديدة يكتبون الهايكو ويعلمونه للأطفال في المدارس باعتباره فنا تعبيريا رفيعا، وتنظم ملتقيات ومهرجانات للهايكو عبر العالم. ولكن لا يوجد أي حضور للغة العربية، بل إن الشائع لدى هذه الأوساط هو أن اللغة العربية غير قادرة على الإبداع في هذا الشكل التعبيري بسبب تقاليدها الشعرية الخاصة. ولا أريد أن أدخل هذا النقاش الآن ولكن أقول أن للمبدعين طريقتهم في ابتكار طرق التعبير الخاصة بهم ولا يمكن للهايكو أن يحل مشكلة ولكن بإمكانه أن يفيد في تطوير التجارب القائمة هنا وهناك. ومن التجارب التي اطلعت عليها أشكال تعبيرية قصيرة جدا قائمة على السطر الواحد أو الجملة الواحدة، وهي محاولات لدى شعراء عرب يريدون الخروج من شكل التعبير الذي فرضته الذائقة العامة الممجدة للخطاب الطويل الدسم، الحداثي أو التقليدي على السواء. هناك تجارب متفرقة لكتابة الهايكو، اطلعت منها على تجربتين لكل من محمد الأسعد، مترجم كتاب الأستاذ كينيث ياسودا عن فن الهايكو وتجربة أخرى لشاعر فلسطيني، ولا أعتقد أن ذلك يحل مشكلة ما ولكنه انفتاح جديد، ولو متأخر، على إحدى التجارب العالمية التي تعتبر منبع الحداثة الشعرية الغربية بالأساس ولا شك هذا تصحيح ضروري للنظرة السائدة والتي لا قبلة لها إلا الغرب.


- كثيرة هي الكتابات التي تحتفي بالماء في متننا الأدبي، فما هي خصوصية تجربتك "المائية"؟
الشاعر عاشور فني: تناول الشعراء الماء باعتباره موضوعا مستقلا أو باعتبار رمزيته، وهذا موجود في الشعر والنثر. ما أراه في "أعراس الماء" يختلف كثيرا عن ذلك. أعراس الماء رؤيا يتجلى فيها الخير العميم والاكتفاء والحضور الناعم للحياة، ويصبح الماء الذي لا لون له منبعا لما لانهاية له من الرؤى والصور والتشكيلات البصرية والذهنية. فزرقة البحر تصب في زرقة السماء في شلال صاعد نحو أعلا الجبل، وزرقة البحر تنسكب أيضا في زرقة المساء في عتمة الليل مرورا نحو الفجر. وتحت صفحة البحر آلاف الصفحات الصاعدة من أعماق داكنة تسكن البحر، هذا هو العالم الذي يظهر في البشر وتتجلى فيه عروس البحر بشاشة على الوجوه. فالماء رؤيا للكون وليس موضوعا للكتابة.

وماذا بعد هذه التجربة؟
تجارب أخرى سيتم الإعلان عنها في حينها. علمتني تجربة رجل من غبار أن أتريث قبل الإعلان عن أي عمل. فللتجربة قواعدها وشروطها التي ينبغي أن تكتمل وتنضج في هدوء وتصدر في سكينة. ولذلك أكتفي بالقول أن أعراس الماء هي تجربة أخرى في الكتابة والنشر والعرض مختلفة تماما، بينت إمكانية تجاوز رداءة ظروف النشر الحالية، كما بينت أيضا تفاهة الرأي القائل بانتهاء دور الشعر. الشعر لا زمن له وله كل الأزمنة. وله ناشروه قارئوه وكاتبوه ونقاده والعاملون له أيضا، فلا يكفي أن "نطبع" الكتاب ونتركه في الرف ثم نقول أن الشعر لا قارئ له. لنشر الشعر شروط ينبغي العمل على توفيرها. وعندئذ سيتوفر ما يكفي من نصوص منشورة للحكم. وإذا كان النص الروائي، يقاس بعدد القراء وبالإقبال الجماهيري، فإن نوعية النص الشعري تقاس بمدى تأثيره في النصوص الأخرى ومدى إبداعيته، حتى ولو لم يكن له قراء غير الشعراء والكتاب أنفسهم. فالشعر يظل منبع الرؤى ومصدر إلهام المبدعين.

ومتى نقرأ "أعراس الماء" باللغة العربية؟
الشاعر عاشور فني : قريبا إن شاء الله
صدر هذا الحوار في ملحق " الأثر" الأدبي بتاريخ 17 يناير 2006

0 التعليقات

إرسال تعليق