| 0 التعليقات ]



الدكتور عاشور فني

العائدة من العراق متوجة بألق الشعر وعبق المحبة، الشاعرة الدكتورة حنين عمر، تعكف هذه الأيام على تنقيح نصها الأخير الذي أخذته قبسا قبسا من نار تموز، وقد وضعت له، على غير العادة، عنوانا مؤقتا: نرد عراقي. قد تغير الأقدار رميتها في أي لحظة فيتغير عنوان النص. لا تريد أن تنشره قبل أن يهدأ رنين ذلك الجرس الداخلي البعيد. قد يرن الجرس ثانية فتترك كل شيء وتمضي.

من كانت في رهافة حنين تظل على الدوام منفتحة على ما يختلج في ذاتها، ولكل ما يحيط بها، ولكل ما يأتي من بعيد أيضا. تظل دائما منفتحة على شيء لا تدري كنهه. شيء يشبه "أسرار الغجر". تعرف جيدا أن ليست المعضلة في ما يأتي من الخارج بل في ما يأتي من الداخل. لذلك فقط تظل على اتصال بكل الخطوط: خطوط الخارج وخطوط الداخل أيضا.

حين أهدتني نسخة من ديوانها ورحلت لم أدر ما أفعل. هل كنا في مقهى؟ هذه الغجرية لا تشرب القهوة بل تقرؤها. ولا تمهلك حتى تكمل قهوتك. يأخذك سكرها في كل الأحاديث دفعة واحدة. كم تحدثنا؟ بعض يوم أو بعض يوم. لا فرق. تمد القصيدة كفها وتنتظر. كيف أقرأ كف هذه القصيدة؟ غجرية بملامح مودرن: قوام سائل وخطوات على حافة الهواء. شيء مجنح يمر ثم يمر. لا يعود إلى البداية أبدا. تتحدث. تذكر أسماء كثيرة بشكل عابر. أعرف القليل منهم. لا أسألها عن اسم واحد. لا شك أنها تعاويذ الغجر.

البدايات دائما حزينة. لكن بدايات حنين رائعة: طفلة مدللة، لم تعرف طعم الخيبة في صغرها. الحلوى واللعب والملابس والعطور. الدراسة والسكن والشغل. لم تتعود على الخيبة والانكسار. لكنها بدأت تجريب الشعور بالخيبة حين كبرت اهتماماتها. لا تقبل أن تكون غريبة في بلدها. مثل نجمة سينما تجلس أحيانا أمام شاشة لا تخصها وحدها. شعور بخيانة ما عند بوابة مغلقة بإحكام. الديكور؟ بلاستيك باهت. المذيع؟ لا أظلمه. يبدو نائما. شاشة معتمة. تتفرس في صورتها فيها فلا تتعرف على ملامحها. أهذه أنا؟ شكرا لكم. المساحة المخصصة لي في نشارتكم ضيقة جدا. لست مستعدة لأن اقضي العمر في انتظار فرصة تأتي من جهتكم. فضاء العالم كله لي. لن أنتظر أبوابكم المغلقة. حين تفتحون هذه الأبواب أكون قد غادرتكم أنتم وسماءكم الضيقة منذ زمن بعيد. سأغلق سماء القلب خلفي. لا تنتظروني على المائدة. لن أشرب قهوتكم أبدا... لا أحد سمع هذا الكلام. كانت تكلم نفسها في المطار...

جربت حنين في سن مبكرة المطارات والمقاهي الباردة في الفجر. جربت اللقاءات العابرة في ردهات الفنادق. جربت قبل ذلك المواقع الإلكترونية العربية المختصة في الشعر. جربت أيضا مسابقة الشعر العربية الكبرى، أمير الشعراء. زاحمت بطيفها النحيل قامات عربية سامقة. جربت اقتحام عش الدبابير في عز الصيف. لم تجن العسل فقط. عادت ببعض الأشواك في القلب:

لست أدري كيف أمحو كل أوشام المنافي...


حنين تعترف: نشرت أسرار الغجر للتخلص من النزعة النزارية التي دمغت جيلا بكامله. خرجت من تجربة أمير الشعراء امرأة ناضجة. لم تكن مجرد تجربة في كتابة القصائد. بل كانت تجربة في محاورة الذات والآخر معا. رؤية الذات في مرآة الآخر أيضا.


صارحتني بطفولة: أستاذي... لم أعد أرغب في الكتابة. اكتشفت أنني لم أبدأ بعد. اكتشف شيئا خطيرا. ... ...

ما الشيء غير الخطير في حياة غجرية؟ الحياة نفسها مخاطرة بسيطة. بل ما جدوى حياة بلا أخطار؟ ثم إن كل اكتشاف مهم يعد خطيرا. هناك دائما كنيسة ما تقف ضده. ما الكنيسة التي أزعجتها حنين؟ كنيسة؟ بل كنائس كثيرة...

أحد الأساتذة الجامعيين قال على الملأ: الجيل الجديد مجرد حشرجة أدبية. ردت حنين بأدب جم : أستاذي الكريم؛ هذا يعني أن صفحتك على الإنترنيت لم تتجدد منذ زمان...

زميلة في المهنة التي لا تتحدث عنها حنين أبدا، أي الطب، نصحتها بود: اتركي الشعر وأصدقاء الفيس بووك تجدي راحة البال.

في الوسط الصحفي، أسماء بعينها تتكرر حتى لم تعد تثير انتباه احد.

شعراء التلفزيون لا يرون في الساحة إلا شعراء التلفزيون، ودرويش في المناسبات للتعمية... مفدي زكريا نفسه لم يعد صوته يسمع في خضم خطابيات مقدمي النشرات والبرامج الناعسة...

كانت حنين نفسها اكتشافا بسيطا. كانت بصحبة ثلاثة شعراء فتيان يحتالون لفرض أسمائهم في ساحة اخترمتها الفوضى من كل جوانبها. مالك ومالك وأمين. أصدقاء نعم. لكن قوانين المنافسة أقسى من كل الصداقات.

• أين هم الآن؟

• الحقيقة لا أدري يا أستاذ.

يغيب أحدهم زمنا فلا تدري له أثرا. يظهر فجأة متوجا من جهة كبيرة وراء الحدود.

• كيف وصلت؟

• تلك قصة طويلة.

لم تعد قصص النجاح متشابهة. بعضهم نال جوائز وطنية ثم ضلت به السبيل إلى دور النشر. إيميليا فريحة سعيد خطيبي هاجر قويدري رشدي رضوان عفاف فنوح وآخرون كثر. المسابقات تتوالى. الفائزون كثر. الأسماء المعروفة تستنكف من الحديث عنهم. يحفظ بعضهم أسماء بعض. الناشرون لا يملكون ربرتوار المؤلفين الجزائريين المعروفين فما بالك بالأسماء الصاعدة. لا يهمهم من فاز بالجائزة هذه السنة. لا يذكرون من فاز بها السنة الماضية. ينتظر الفائز أن تنشر أعماله.  يؤلف غيرها وينتشر في أرض الله الواسعة باحثا عن أفق.  في أحسن التقديرات سيصل إلى القارئ بعد جيل. حصة المواطن الحالي من الشعر والرواية غير مدرجة في المخطط الخماسي الجاري. لذلك تلجأ حنين وجيلها إلى سماوات أخرى ... هناك حق جديد ينبغي الاعتراف به لهؤلاء المواطنين: حق اللجوء الشعري في فضاءات آمنة.

خارج الحدود تعرفت على أسماء جزائرية لامعة: شفيقة، خالدية، رابح، بشير، وكلا وعد الله الحسنى... أصبحت السماء الشعرية الوطنية طاردة للنجوم. لا بد أن تقطع مدارات فلكية بعيدة كي يظهر في الجزائر...

خاضوا جميعا تجربة السباق في ميدان ملغم بالهاتف النقال وسفارات الدول الأخرى التي تجند الجمهور للتصويت. توقف معظم شعراء الجزائر في المراحل الوسطى. لم تخذلهم كفاءتهم. خذلهم الدعم.

لا حزب وحيدا يمول المهرجانات الكبرى كما في السبعينيات ولا مؤسسة عمومية تطبع الكتب كما في الثمانينيات. كانت قواعد الظهور بسيطة. من أراد الظهور فعليه الاختيار. كثيرون اختاروا اختيارات لا رجعة فيها ثم اختاروا اختيارات أخرى. لا رجعة فيها أيضا. أسماءهم معروفة جدا. لم يكونوا مضطرين لقطع كل هذا المشوار. هم الآن لا يقفون سدا منيعا أمام الجيل الجديد... ولكن بإمكانهم أن يفتحوا أفقا واسعا...

هناك أمر آخر. بين هذا الجيل من التنافس أكثر مما كان بين الأجيال الأخرى من تضامن. قلت الجيل؟ يعرف الأصدقاء والزملاء أنني لم أكن من المؤمنين بذلك. بل اعتبرت أن الكتاب والمثقفين غير قابلين للتصنيف كأجيال، بل مدارس واتجاهات، إلا إذا كان التصنيف في ظل تيار معين فيمكن الحديث عن أجيال بناء على تطور الفكرة نفسها. رفضت التصنيف الكرونولوجي أيضا. هل تغير الوضع؟ هل أكتفي بهذا التصنيف الديمغرافي؟

كانت فكرة صراع الأجيال رهيبة. جماعات مسلحة إيديوليوجيا. لها مراجعها ومراكز قوتها تستخدمها ربما لصالح جهة خارج الثقافة والأدب أصلا. مع ذلك كانت للعبة قوانينها: التضامن واجب بين أفراد "الجيل" الواحد.

ما القانون الذي يحكم هذا "الجيل" الجديد؟ لم تتوفر أدنى شروط الحوار الثقافي وهو الاعتراف. من يعترف بهؤلاء؟ بل هل يعترفون هم أنفسهم بعضم ببعض؟ جيل بكامله مضطر للبحث عن الاعتراف تحت سماوات أخرى.

استقبلت حنين شهر أكتوبر في عمان الأردن باعتبارها نجمة من نجوم الشعر. تابعت شخصيا تغطية الصحف واحتفاء أوساط المدينة بحنين. استقبلت في بغداد الشعر. ترن الهواتف في كل عاصمة فتجيب. لكن خط الجزائر لا يجيب. عتبها على بلدها لا حدود له. لكنه عتب القلب المحب.

عادت الغجرية أخيرا إلى مضارب قومها وطعم سكر الضيافة يطبع صورة أخوالها في القلب شيء من العتب على أعمامها: مهملون، مهملون، مهملون.

"أنت اهملتني،

أنت علمتني الهمل يا مهملا"

قالها العراقي الكبير، مظفر النواب الذي تحبه حنين كما أحبه جيل الأخضر فلوس وعمار مرياش. خرج من بغداد ليلا وفي قلبه شيء. شعور بالخوف والانقباض من الغربة في أوطان لا تصلح للغناء. شعور بالإهمال وبكسر القلب والجناح، حملها على أن تختار فضاءات مأمونة تحاول الطيران فيها، ولو بجنح مهيض.

حين نضجت التجربة وجدت الغجرية نفسها تقف أمام باب الجنة. تخاطب المتنبي بمثل خطابه:


أنا لست ممن يتبعونك إنما       أنا باجتياز البحر مثلكَ أحلمُ

في المنفى تتفرس في ملامح الوطن:

أحتاج عطركَ كي أكونَ جميلة...

يا قلب الشاعرة المرهف... لعل بك عتبا على الوطن. لك العتبى حتى ترضى يا قلب الوطن. لعل قلب الشاعرة يتحدث في أوجاعه عن أوجاع الآخرين. لعل القلب المدلل لم يعرف انكسارات الأمل في شفق العمر الوردي. تمسح دمعة الدلال وتواصل:

أحتاجُ حبك كي أكون أميرة...

تتفرس في مظاهر النعيم الذي يحيط بها وهي خارج الحدود ثم تمسك سيالة زرقاء. تتنفس بعمق ثم تضيف عنوانا فرعيا: وجهك الذي لمحت من شباك الجحيم.

0 التعليقات

إرسال تعليق